حاول منظمّو مهرجان السجادة الحمراء السينمائي في نسخته الثانية بمدينة غزة والذي بدأ في 12-5-2016 واستمرّ لمدة أربعة أيام، أن يكون بهياً وتُسلط عليه الأضواء على شاكلة العام الماضي، حين افتتحوه بحي الشجاعية الذي دمرّه الاحتلال خلال حرب 2014، وقص شريطه أهالي الحي أنفسهم.
إلا أن ذلك لم يحدث؛ فالعراقيل كانت كثيرة، والإحباط أكبر، ابتداء من مكان إقامة المهرجان في مركز رشاد الشوا فهو مكان مغلق، لا يتسّع لأكثر من ألف مشارك حضروا المهرجان.
إضافة إلى أن رجال من جهات أمنية منعوا إطفاء الأضواء أثناء عرض فيلم الافتتاح وهو فيلم ”يا طير يا طاير“ للمخرج هاني أبو أسعد، الأمر الذي جعل العرض مشتتاً، وتصاعد معه تململ الجمهور.
يقول المخرج خليل المزين ومدير المهرجان، خلال كلمته في الافتتاح، ”كنا نريد تنظيمه على ساحة ميناء غزة، وتخيلنا السجادة الحمراء مقابل البحر، ولكن منعونا من ذلك“.
وليس هذا شكل المضايقات الوحيد، فكان هناك رقابة واضحة على الأفلام من تشويش اللقطات وقطع الكلمات، إلا أن الرقابة ذاتها لم تحذف المشاهد التي تسخر من حكم حركة حماس في فيلم ”يا طير يا طاير“ الذي يتحدث عن الفائز بلقب محبوب العرب لعام2013 محمد عساف، على الرغم من أن هذه الرقابة مسؤولية وزارة الثقافة بغزة التي تتحكم بها الحركة.
وهنا يقول عاطف عسقول وكيل وزارة الثقافة بغزة ”إن أمر اللقطات التي فيها مشاهد خارجة؛ موضوع أخلاقي لا يقبله أحد، خاصة بوجود العائلات، ولكن فيلم عساف رأينا أنه نوع من النقد المقبول بلغة سينمائية“.
السجال بين إدارة المهرجان ورجال الأجهزة الأمنية التي تقودها حركة حماس على إطفاء الأضواء وخيار الفصل بين الرجال والنساء، وبين إنارة الأضواء وعدم الفصل بينهم، استمرّ طوال أيام المهرجان.
وكيل وزارة الثقافة عسقول أكدّ فخره بالمهرجان، فهو يرسل رسالة إلى العالم أن أهل غزة يتابعون ويحبّون السينما مثل أي مدينة أخرى.
شعار المهرجان ”بدنا نتنفس“ مكتوب بكل لغات العالم على المنصّة الرئيسية التي كانت خلفية لعشرات من العائلات والشباب الذين يلتقطون الصور، وسط ضجة بسط السجادة الحمراء حتى الشارع الخارجي، فـ“المزين“ هدفه منذ البداية أن يكون مهرجانا للعامة وليس لنخبة الفنانين والمثقفين.
يقول المسؤول الإعلامي في المهرجان سعود أبو رمضان للجزيرة الوثائقية ”نريد أن يرى العالم وجه آخر لقطاع غزة مختلف عن وجه الحرب والنضال، بل وجه السينما والفن، فغزة تحب الحياة“.
وليست الأضواء وحدها التي شوشّت على عرض فيلم الافتتاح لهاني أبو أسعد، بل أيضاً مشكلة السماعات التي استمرت ”زنّتها“ طوال العرض، وهناك أيضاً أسباب أخرى؛ فالإحباط أصاب الكثيرين أثناء عرض الفيلم. فأغلب المشاهد في الفيلم تم تصويرها في أماكن لا تشبه القطاع على الإطلاق، كذلك حبكة القصة مبعثرة، تشعر أنها عدة مشاهد لا تحمل سوى المبالغات تم إلصاقها ببعض، ورغم هذه المبالغات إلا أنه لم يظهر مدى التناقض الحقيقي بين مدينة كغزة تعيش الحصار منذ سنوات وبين موهبة محمد عساف التي قفزت عن كل شيء.
الفيلم احتفائي كرنفالي، ما يمنع نقده بشكل جدّي، فاللقطات الأخيرة من الفيلم التي تُظهر محمد عساف في المسابقة وحصوله على اللقب تفاعل معها الجمهور بشكل كبير وسط الصراخ والصفير، فكأن غزة تحنّ إلى تلك اللحظة الجميلة التي جاءت وشفت جراحها للتو بعد حرب 2012.
اليوم الثاني من المهرجان تأخّر عرض الأفلام حوالي ساعة بسبب الجدل ذاته على الأضواء، حتى تم الاتفاق بين إدارة المهرجان ورجال الأمن على إطفاء الضوء الأبيض القوي وإنارة آخر ضعيف، بلون برتقالي وضعه فريق المهرجان.
وكان عرض فيلم ”3000 آلاف ليلة“ قد مرّ على خير في اليوم الثاني مع هذه الأضواء الضعيفة، وتفاعل معه الجمهور بشكل كبير، فللمرة الأولى تعرض تفاصيل حياة الأسيرات الفلسطينيات داخل سجون الاحتلال، إلى درجة تشعر أنك اختنقت داخل الفيلم وأًصبحت حبيسا مثلهن، ولكنها تبقى الطريقة الرومانسية الوطنية ذاتها في هذا النوع من الأفلام سواء على مستوى الإغراق بالمأساة، أو النهاية السعيدة المُفاجئة.
أما اليومين الثالث والرابع فقد تم نقل المهرجان إلى مسرح المسحال، على أن تكون الأضواء مُطفأة ولكن بعد فصل تام بين الإناث والذكور.
في كل الأحوال، فإن هذا الجدل أوجده حكم غزة الثيوقراطي الذي يحاول التحكم بكل الفعاليات الثقافية والفنية بعد أن تحكم بالوطنية والسياسية، لكنه جدل لم يمنع على الإطلاق الاستمتاع ببعض الأفلام – من ضمن أكثر من 30 فيلماً عرضها المهرجان تمسّ حقوق الإنسان – مثل الفيلم الأردني“ ذيب“ الذي ترشّح للأوسكار عام 2016، وفيلم ”سارة“ للمخرج خليل المزين الذي حصد جائزة أفضل مخرج بمهرجان الإسكندرية عام 2015.
وهناك فيلم ”فردي“ للممثل خالد نبوي والذي يمسك عقل المتلقي متلبساً بعنصريته، لأن المُشاهد يظن طوال الوقت أن هذا المواطن المسيحي متضايق من صوت اسطوانة القرآن التي تعمل بشكل أتوماتيكي بمجرد أن يتحرك المصعد القديم؛ فالكاميرا تركز على وجهه المتضايق الصامت طوال الفيلم داخل المصعد، لكن تكتشف في النهاية أنه كان يقاوم بصمت التبول على نفسه وسط جيرانه، وهو ما حدث في نهاية الأمر.
الخذلان كان كبيراً في النسخة الثانية من المهرجان سواء عند المنظمين أو المتلقين، لكن هذا لم يمنع على الإطلاق أن ذكرى واحدة جديدة على الأقل عن السينما، وداخل السينما، قد تكون انطبعت في عقل طفل أو شاب أو كهل غيرت نظرته للأمور إلى الأبد.